وهذا ما استدل به
السلف قديماً، وإن كان
للمرجئة عليه اعتراض سنورده إن شاء الله ونرده، وممن استدل بذلك الإمام
أبو بكر محمد بن الحسين الآجري الشافعي، قال:
'' اعلموا -رحمنا الله تعالى وإياكم- يا أهل القرآن ويا أهل العلم، يا أهل السنن والآثار، ويا معشر من فقههم الله عز وجل في الدين بعلم الحلال والحرام، أنكم إن تدبرتم القرآن كما أمركم الله عز وجل علمتم أن الله عز وجل أوجب على المؤمنين بعد إيمانهم به وبرسوله العمل.
وأنه عز وجل لم يُثن على المؤمنين بأنه قد رضي عنهم وقد رضوا عنه، وأثابهم على ذلك الدخول إلى الجنة والنجاة من النار إلا بالإيمان والعمل الصالح، وقرن مع الإيمان العمل الصالح، لم يدخلهم الجنة بالإيمان وحده حتى ضم إليه العمل الصالح الذي قد وفقهم إليه، فصار الإيمان لا يتم لأحد حتى يكون مصدقاً بقلبه وناطقاً بلسانه، وعاملاً بجوارحه.
لا يخفى أن من تدبر القرآن وتصفحه وجده كما ذكرت.
واعلموا -رحمنا الله تعالى وإياكم- أني قد تصفحت القرآن، فوجدت فيه ما ذكرته في تسعة وخمسين موضعاً من كتاب الله عز وجل، وأن الله تبارك وتعالى لم يدخل المؤمنين الجنة بالإيمان وحده، بل أدخلهم الجنة برحمته إياهم، وبما وفقهم له من الإيمان به والعمل الصالح.
وهذا رد على من قال: الإيمان المعرفة، ورد على من قال: " المعرفة والقول، وإن لم يعمل "، نعوذ بالله من قائل هذا...''.
ثم شرع رحمه الله في سرد هذه المواضع من قوله تعالى في سورة البقرة:
((
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ))[البقرة:25]. إلى قوله ((
وَالْعَصْرِ *
إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ))[العصر:1-3]
أقول: إنه رحمه الله لم يستكمل كل الآيات في اقتران العمل بالإيمان، بل اقتصر على ما كان فيه تقديم ذكر الإيمان على العمل، أما ما تقدم فيه العمل على الإيمان فلم يذكره، ومعلوم أن ذكر النوعين أدل على التلازم.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة طه: ((
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى))[طه:75] وقد ذكرها، فإذا ضممنا إليها آية أخرى في السورة نفسها لم يذكرها، وهي: ((
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً))[طه:112] كان أدلَّ في أنه لا عمل بلا إيمان ولا إيمان بلا عمل.
وإنما كثر تقديم الإيمان؛ لأن المراد به قول القلب وعمله، وهو الأصل، فالباطن أصل للظاهر -كما سبق- لكن ورود بعض مواضع يتقدم فيها ذكر العمل عليه، يدل على التلازم، وعلى أهمية المقدم من بين أعمال الإيمان في ذلك السياق.
ومن ذلك قوله تعالى: ((
وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ))[الإسراء:19].
وقد استدل بها
عطاء في مناظرته لـ
سالم الأفطس المرجئ التي سبق إيرادها نقلاً عن
ابن بطة - قال: " فألزم الاسم العمل والعمل الاسم ".
وفي هذا تنبيه على مواضع أخرى تماثلها، مع قصد أهمية المقدم -كما سبق- ومنها:
((
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ))[آل عمران:110].
فلا يقال: إن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ليسا من الإيمان، أو يصحان بدونه؛ لأنه عطف الإيمان عليهما، والعطف يقتضي المغايرة.
بل المقصود التنبيه على أهمية هذه الميزة الإسلامية، بإفرادها عن سائر أعمال الإيمان، وتقديمها عليه، وإلا فمعلوم قطعاً أن الإيمان لا يتقدم عليه شيء، إذ لا يقبل شيء بدونه.
وقد ورد تقديم التوبة والتقوى والشكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على الإيمان في آيات أخرى.
أما التوبة، ففي أربعة مواضع، منها: ((
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى))[طه:82].
مع ورود التوبة بمعنى الإيمان نفسه في الآية السالفة: ((
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ))[التوبة:5].
وأما الشكر، ففي قوله تعالى: ((
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ))[النساء:147].
وأما التقوى، ففي قوله تعالى: ((
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ))[الحديد:28].
وأما الصلاة والزكاة، ففي قوله تعالى: ((
لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ))[المائدة:12].
وورد عكس ذلك، وهو ذكر الإيمان ثم العطف عليه بذكر شيء من أعماله، تنبيهاً على أهميته أيضاً، مثل قوله تعالى: ((
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ))[البقرة:218].
والمهاجرون هم من المؤمنين، وكل المؤمنين يرجون رحمة الله، ومواضع هذا كثيرة.
وبالجملة، فالإيمان في هذه النصوص، إما أنه الإيمان كله باطنه وظاهره، لكن يعطف عليه بعضه، ويقدم عليه بعضه، وهذا واضح الدلالة.
وإما أن يكون المقصود باطن الإيمان، أي: الإيمان المذكور في حديث جبريل.
ويكون عطف الأعمال عليه، أو عطفه على أعمال هي أجزاء ظاهرة من الإيمان، ولا تصح بدون الإيمان الباطن، ودلالته لا خفاء فيها أيضاً.
وأقل المواضع دلالة على التركيب، هي التي يذكر فيها الإيمان مطلقاً، ومع ذلك فإن الإيمان المطلق هو بمعنى " الدين "، والدين يشمل أعمال الإيمان جميعها، وهذا لا يقتصر على لفظ الإيمان، بل له ألفاظ أخرى، كلفظ " البر " المذكور في آية البقرة السابقة: ((
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ))[البقرة:177].
ولفظ (الدين) ولفظ (التقوى) ولفظ (العبادة) ولفظ (الهدى) ولفظ (الطاعة) ولفظ (المعروف) ولفظ (الخير) ونحوها من الألفاظ العامة التي تدخل فيها شعب الإيمان جميعاً.
ونختم هذا المبحث بذكر موضع مهم من المواضع التي قرن فيها العمل بالإيمان، للدلالة على التركيب والتلازم، وهو قوله تعالى:
((
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً))[النساء:124].
ووجه الأهمية أن الله تعالى ذكر ذلك ضمن الرد على دعوى الإيمان بالتسمي والقول، دون إصلاح العمل، ورد على من يزعم هذه الدعوى سواء أكان كتابياً أم حنيفياً، فقال قبلها:
((
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً))[النساء:123].
وقال بعدها: ((
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً))[النساء:125].
فبين أن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، بل ما وقر في القلب وصدقه العمل، وأنه لا أحد أحسن ديناً ممن أسلم؛ أي انقاد وأطاع بلا حرج ولا منازعة، وهذه هي ملة إبراهيم، التي لا يقبل الله ديناً غيرها مهما كثرت الأماني والدعاوى.